سورة الطلاق - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


قوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلاً تشريفاً له، ثم خاطبه مع أمته، أو الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمته أسوته في ذلك، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: مستقبلات لعدتهنّ، أو في قبل عدتهنّ، أو لقبل عدتهنّ.
وقال الجرجاني: إن اللام في {لعدتهنّ} بمعنى في، أي: في عدتهنّ.
وقال أبو حيان: هو على حذف مضاف أي: لاستقبال عدتهنّ، واللام للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا، والمراد أن يطلقوهنّ في طهر لم يقع فيه جماع، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهنّ، فإذا طلقوهنّ هكذا، فقد طلقوهنّ لعدتهنّ، وسيأتي بيان هذا من السنة في آخر البحث إن شاء الله {وَأَحْصُواْ العدة} أي: احفظوها، واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى تتمّ العدّة، وهي ثلاثة قروء، والخطاب للأزواج، وقيل: للزوجات، وقيل: للمسلمين على العموم، والأول أولى؛ لأن الضمائر كلها لهم {واتقوا الله رَبَّكُمْ} فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضارّوهن {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} أي: التي كنّ فيها عند الطلاق ما دمن في العدّة، وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي، وبيان كمال استحقاقهنّ للسكنى في مدّة العدّة، ومثله قوله: {واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] وقوله: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهنّ من البيوت التي وقع الطلاق وهنّ فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضاً فقال: {وَلاَ يَخْرُجْنَ} أي: لا يخرجن من تلك البيوت ما دمن في العدّة إلاّ لأمر ضروري، كما سيأتي بيان ذلك، وقيل: المراد لا يخرجن من أنفسهن إلاّ إذا أذن لهنّ الأزواج، فلا بأس، والأوّل أولى {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى، أي: لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ، لا من الجملة الثانية. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا، وذلك أن تزني، فتخرج لإقامة الحدّ عليها.
وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان، والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ: {إلاّ أن يفحشن عليكم} وقيل المعنى: إلاّ أن يخرجن تعدّياً، فإن خروجهنّ على هذا الوجه فاحشة، وهو بعيد. والإشارة بقوله: {وَتِلْكَ} إلى ما ذكر من الأحكام وهو مبتدأ، وخبره {حُدُودَ الله} والمعنى: أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدّها لهم لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي: يتجاوزها إلى غيرها، أو يخلّ بشيء منها {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بإيرادها مورد الهلاك، وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه، وجملة: {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله.
قال القرطبي: قال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة؛ والمعنى: التحريض على طلاق الواحدة، والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع، فلا يجد إلى المراجعة سبيلاً.
وقال مقاتل {بعد ذلك} أي: بعد طلقة أو طلقتين {أمراً} بالمراجعة. قال الواحدي: الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين. قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد، فلا معنى لقوله: {لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن انقضاء أجل العدة، وشارفن آخرها {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: راجعوهنّ بحسن معاشرة، ورغبة فيهنّ من غير قصد إلى مضارّة لهنّ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: اتركوهنّ حتى تنقضي عدتهنّ، فيملكن نفوسهن مع إيفائهنّ بما هو لهنّ عليكم من الحقوق، وترك المضارة لهنّ {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما قطعاً للتنازع، وحسماً لمادة الخصومة، والأمر للندب، كما في قوله: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقيل: إنه للوجوب، وإليه ذهب الشافعي قال: الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وفي قول للشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقرباً إلى الله، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة البقرة، وقيل: الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة، أي: الشهود عند الرجعة، فيكون قوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} أمراً بنفس الإشهاد، ويكون قوله: {وَأَقِيمُواْ الشهادة} أمراً بأن تكون خالصة لله، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما تقدّم من الأمر بالإشهاد، وإقامة الشهادة لله، وهو مبتدأ، وخبره {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر} وخص المؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأنه المنتفع بذلك دون غيره {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أي: من يتق عذاب الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف على حدوده التي حدّها لعباده، وعدم مجاوزتها يجعل له مخرجاً مما وقع فيه من الشدائد والمحن. {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أي: من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه. قال الشعبي، والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدّة، وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدّة.
وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة.
وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه.
وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس.
وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب، أي: يبارك له فيما آتاه.
وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقيل: غير ذلك. وظاهر الآية العموم، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص، ويدخل ما فيه السياق دخولاً أولياً {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: ومن وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} قرأ الجمهور بتنوين بالغ، ونصب أمره، وقرأ حفص بالإضافة، وقرأ ابن أبي عبلة، وداود بن أبي هند، وأبو عمرو في رواية عنه بتنوين بالغ، ورفع أمره على أنه فاعل بالغ، أو على أن أمره مبتدأ مؤخر، وبالغ خبر مقدم. قال الفراء في توجيه هذه القراءة، أي: أمره بالغ؛ والمعنى على القراءة الأولى، والثانية: أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء، ولا يعجزه مطلوب، وعلى القراءة الثالثة: أن الله نافذ أمره لا يرده شيء. وقرأ المفضل: {بالغا} بالنصب على الحال، ويكون خبر إن قوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَئ قَدْراً} أي: تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً. فقد جعل سبحانه للشدة أجلاً تنتهي إليه، وللرخاء أجلاً ينتهي إليه.
وقال السدي: هو قدر الحيض والعدة. {واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} وهن الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه {إِنِ ارتبتم} أي: شككتم وجهلتم كيف عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ} لصغرهن، وعدم بلوغهن سن المحيض، أي: فعدتهن ثلاثة أشهر، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي: انتهاء عدتهن وضع الحمل، وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقيل: معنى {إِنِ ارتبتم} إن تيقنتم، ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك، وهو الظاهر. قال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها، وقد انقطع عنها الحيض، وكانت ممن يحيض مثلها.
وقال مجاهد: إن ارتبتم: يعني لم تعلموا عدّة الآيسة والتي لم تحض فالعدّة هذه. وقيل المعنى: إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا؟ بل استحاضة، فالعدّة ثلاثة أشهر {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي: من يتقه في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة.
وقال الضحاك: من يتق الله، فليطلق للسنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة.
وقال مقاتل: من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من الأحكام، أي: ذلك المذكور من الأحكام {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي: حكمه الذي حكم به بين عباده، وشرعه الذي شرعه لهم، ومعنى {أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أنزله في كتابه على رسوله، وبينه لكم وفصل أحكامه، وأوضح حلاله وحرامه {وَمَن يَتَّقِ الله} بترك ما لا يرضاه {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} التي اقترفها؛ لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي: يعطه من الأجر في الآخرة أجراً عظيماً، وهو الجنة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فقيل له: راجعها، فإنها صوّامة قوّامة، وهي من أزواجك في الجنة.
وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلاً. وأخرح الحاكم عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة، ثم نكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ما يغني عني إلاّ ما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك، فدعا رسول الله ركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون كذا من كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: «طلقها»، ففعل، فقال لأبي ركانة: «ارتجعها»، فقال: يا رسول الله إني طلقتها، قال: «قد علمت ذلك، فارتجعها»، فنزلت: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. قال الذهبي: إسناده واه، والخبر خطأ، فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر: أنه طلق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، وتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء»، وقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: {يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء فطلقوهنّ في قبل عدتهنّ}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {فطلقوهنّ في قبل عدتهنّ}.
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر أنه قرأ: {فطلقوهنّ لقبل عدتهنّ}.
وأخرج ابن الأنباري، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن مجاهد أنه قرأ كذلك.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: من أراد أن يطلق للسنة، كما أمره الله، فليطلقها طاهراً في غير جماع.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: طاهراً من غير جماع، وفي الباب أحاديث.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود: {وَأَحْصُواْ العدة} قال: الطلاق طاهراً في غير جماع.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله: {وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} قال: خروجها قبل انقضاء العدّة من بيتها هي الفاحشة المبينة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} قال: الزنا.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال: الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل، فإذا بذت عليهم بلسانها، فقد حلّ لهم إخراجها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله: {لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالت: هي الرّجعة.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين أن رجلاً طلق، ولم يشهد، قال: بئس ما صنع، طلق في بدعة وارتجع في غير سنة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته، ويستغفر الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} قال: مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله هو الذي يعطيه وهو يمنعه، وهو يبتليه وهو يعافيه وهو يدفع عنه، وفي قوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} قال: من حيث لا يدري.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} قال: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
وأخرج الحاكم وصححه، وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: نزلت هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اتق الله واصبر»، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتى جاء ابن له بغنم كان العدوّ أصابوه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عنها، وأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله} الآية.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدوّ، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: «آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»، فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدوّ، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} الآية. وفي الباب روايات تشهد لهذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت: يكفيه همّ الدنيا وغمها.
وأخرج أحمد وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي عن أبي ذرّ قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فجعل يردّدها حتى نعست، ثم قال: «يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} قال: ليس المتوكل الذي يقول تقضي حاجتي، وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمه، ودفع عنه ما يكره، وقضى حاجته، ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، وفي قوله: {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} قال: يقول قاضي أمره على من توكل، وعلى من لم يتوكل، ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، وفي قوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَئ قَدْراً} قال: يعني: أجلاً ومنتهى ينتهي إليه.
وأخرج ابن المبارك، والطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حقّ توكله لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً».
وأخرج إسحاق بن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدّة النساء قالوا: لقد بقي من عدّة النساء عدد لم يذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهنّ، وذوات الحمل، فأنزل الله: {واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض} الآية.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وأبو يعلى، والضياء في المختارة، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أهي المطلقة ثلاثاً، أو المتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثاً، والمتوفى عنها»
وأخرج نحوه عنه مرفوعاً ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والدارقطني من وجه آخر.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً قال: تعتدّ آخر الأجلين، فقال: من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة البقرة {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} بكذا وكذا أشهراً، وكل مطلقة، أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.
وروي نحو هذا عنه من طرق، وبعضها في صحيح البخاري.
وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أم سلمة: أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الباب أحاديث.


قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى، ومن للتبعيض، أي: بعض مكان سكناكم، وقيل: زائدة {مّن وُجْدِكُمْ} أي: من سعتكم وطاقتكم، والوجد القدرة. قال الفرّاء: يقول على ما يجد، فإن كان موسعاً عليه، وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيراً فعلى قدر ذلك. قال قتادة: إن لم تجد إلاّ ناحية بيتك فأسكنها فيه.
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثاً، هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك، والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة.
وذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق، وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} نهى سبحانه عن مضارتهنّ بالتضييق عليهنّ في المسكن والنفقة.
وقال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النفقة.
وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدّتها راجعها، ثم طلقها {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي: إلى غاية هي وضعهنّ للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة؛ فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال عليّ، وابن عمر، وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أولادكم بعد ذلك {فآتوهن اجورهنّ} أي: أجور إرضاعهنّ والمعنى: أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهنّ منهنّ، فلهنّ أجورهنّ على ذلك {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات، أي: تشاورا بينكم بما هو معروف غير منكر، وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل، وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضاً بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم. قال مقاتل: المعنى: ليتراض الأب والأم على أجر مسمى، قيل: والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر، والمعروف الجميل منها: أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي: في أجر الرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأمّ الأجر، وأبت الأمّ أن ترضعه إلاّ بما تريد من الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي: يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر. قال الضحاك: إن أبت الأمّ أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ} فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: كان رزقه بمقدار القوت، أو مضيق ليس بموسع {فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله} أي: مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} أي: ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي: بعد ضيق وشدّة سعة وغنى.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مّن وُجْدِكُمْ} قال: من سعتكم {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} قال في المسكن.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ} الآية، قال: فهذه في المرأة يطلقها زوجها، وهي حامل، فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، فإن أبان طلاقها وليس بها حمل، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة لها.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول، فأخبره، فقال: رحمه الله تأوّل هذه الآية {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله}.


لما ذكر سبحانه ما تقدّم من الأحكام، حذّر من مخالفتها، وذكر عتوّ قوم خالفوا أوامره، فحلّ بهم عذابه، فقال: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} يعني: عصت، والمراد: أهلها، والمعنى: وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين {عتت} معنى أعرضت، وقد قدّمنا الكلام في {كأين} في سورة آل عمران وغيرها {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} أي: شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا. قال مقاتل: حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب، وهو معنى قوله: {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي: عذبنا أهلها عذاباً عظيماً منكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: عذبنا أهلها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط، والسيف والخسف والمسخ، وحاسبناهم في الآخرة حساباً شديداً. والنكر: المنكر {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي: عاقبة كفرها {وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} أي: هلاكاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة. {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} في الآخرة، وهو عذاب النار، والتكرير للتأكيد {فاتقوا الله ياأولى الألباب} أي: يا أولي العقول الراجحة، وقوله: {الذين آمنوا} في محل نصب بتقدير أعني بياناً للمنادى بقوله: {يأُوْلِي الألباب} أو عطف بيان له أو نعت {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي: أنزل إليكم قرآناً، وأرسل إليكم رسولاً، وقال أبو عليّ الفارسي: إن رسولاً منصوب بالمصدر، وهو ذكراً؛ لأن المصدر المنوّن يعمل. والمعنى: أنزل إليكم ذكر الرسول. وقيل: إن {رسولاً} بدل من {ذكراً}؛ وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة، وقيل: إنه بدل منه على حذف مضاف من الأوّل تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً، أو صاحب ذكر رسولاً. وقيل: إن رسولاً نعت على حذف مضاف أي: ذكراً ذا رسول، فذا رسول نعت للذكر. وقيل: إن رسولاً بمعنى رسالة، فيكون رسولاً بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بياناً. وقيل: إن {رسولاً} منتصب على الإغراء، كأنه قال: الزموا رسولاً، وقيل: إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف كقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. ثم بيّن هذا الشرف فقال: {رَسُولاً} وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: هو جبريل، والمراد بالذكر القرآن، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة، كما لا يخفى. ثم نعت سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور بقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات} أي: حال كونها مبينات، قرأ الجمهور: {مبينات} على صيغة اسم المفعول، أي: بيّنها الله وأوضحها، وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي على صيغة اسم الفاعل أي: الآيات تبيّن للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام.
ورجّح القراءة الأولى أبو حاتم، وأبو عبيد لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} [آل عمران: 118] {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} اللام متعلقة ب {يتلو} أي: ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل، فيكون المخرج هو الله سبحانه: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي: يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه {ندخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} قرأ الجمهور: {يدخله} بالتحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون، وجمع الضمير في {خالدين فِيهَا أَبَداً} باعتبار معنى من، ووحّده في {يدخله} باعتبار لفظها، وجملة: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} في محل نصب على الحال من الضمير في خالدين على التداخل، أو من مفعول يدخله على الترادف؛ ومعنى {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} أي: وسع له رزقه في الجنة. {الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات} الاسم الشريف مبتدأ، وخبره الموصول مع صلته {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي: وخلق من الأرض مثلهنّ يعني: سبعاً.
واختلف في كيفية طبقات الأرض. قال القرطبي في تفسيره: واختلف فيهنّ على قولين: أحدهما، وهو قول الجمهور: أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأوّل أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي، والنسائي، وغيرهما، وقد مضى ذلك مبيناً في البقرة قال: وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» إلى آخر كلامه، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول الجمهور. قرأ الجمهور: {مثلهنّ} بالنصب عطفاً على {سَبْعَ سموات} أو على تقدير فعل، أي: وخلق من الأرض مثلهنّ. وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء، والجار والمجرور قبله خبره {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} الجملة مستأنفة، ويجوز أن تكون صفة لما قبلها، والأمر: الوحي. قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى السبع الأرضين.
وقال الحسن: بين كل سماء وبين الأرض.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه، وقيل: بينهنّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، وقيل: هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا هو مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله وللريح والسحاب، ونحوها. قرأ الجمهور: {يتنزل الأمر} من التنزل، ورفع الأمر على الفاعلية، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: {ينزل} من الإنزال، ونصب الأمر على المفعولية، والفاعل الله سبحانه، واللام في {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} متعلق ب {خلق}، أو ب {يتنزل}، أو بمقدّر، أي: فعل ذلك؛ لتعلموا كمال قدرته، وإحاطته بالأشياء، وهو معنى {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَئ عِلْمَا} فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان، وانتصاب علماً على المصدرية؛ لأن أحاط بمعنى علم، أو هو صفة لمصدر محذوف أي: أحاط إحاطة علماً، ويجوز أن يكون تمييزاً.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} يقول: لم ترحم {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} يقول: عظيماً منكراً.
وأخرج ابن مردويه عنه: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً} قال: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل: {الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات *وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} إلى آخر السورة، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} قال: سبع أرضين في كلّ أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد ملك. والثانية مسجن الريح، فلما أراد الله أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً يهلك عاداً، فقال: يا ربّ أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار: إذن تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه: {مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42] والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، فقالوا: يا رسول الله للنار كبريت؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده؛ إن فيها لأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت» إلى آخر الحديث. قال الذهبي متعقباً للحاكم: هو حديث منكر.
وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال: سيد السموات السماء التي فيها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها.